كتب احمد عباس ( ابن النيل )
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد – رضي الله عنه – أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ»
وقال ابن حجر في الفتح: “قَالَ عِيَاضٌ الشِّبْرُ وَالذِّرَاعُ وَالطَّرِيقُ وَدُخُولُ الْجُحْرِ تَمْثِيلٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ وَذَمَّهُ”.
وانطلاقًا من هذا الحديث النبوي المعجز، فمعلوم أنَّ الغَرْب كان وما زال يُمارس هُجُومًا فكريًّا – بعد أن فشل في الهجوم العسكري – مِمَّا أدى إلى اختراق صفوف الأمة الإسلامية، وتحريفِ كثير من تاريخها، ومنهجها، وحضارتها، وعقيدتها، واخترع أفكارًا تُشْبه الإسلامَ مِن طرفٍ خَفِيٍّ – وليستْ منه – فانبرى له مَن وقف حائِط صَدٍّ ضده، وزادت صيحاتهم تدوِّي في أرجاء المعمورة: أنِ احْذروا من الغزْوِ الفكري، أن احذروا مِنَ التغريب
فلما وجد الغربُ فشلهم في الحرب المباشرة، بدأ في استخدام سلوك المكر والخديعة – سلوك الغزو الفكري – والذي يُمَثِّل أفضل الطرُق وأقربها، لإحكام سيطرته الاستعمارية على المسلمين
إن الله – عزَّ وجلَّ – ابْتَعَثَ رسولَه – صلى الله عليه وسلم – إلى البشريَّة جمعاء؛ لإخراج العِباد من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد – سبحانه وتعالى – فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 9]، وقال: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾[الطلاق: 10، 11]، وقد أَمَر اللهُ – تبارك وتعالى – نبيَّه وأُمَّة الإسلام بإبلاغ هذا الدِّين؛ فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [المائدة: 67]، ثم لَمَّا وَجَد هؤلاءِ الحقدةُ انتشارَ الدِّين – بنَصِّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ”[8] – تآمروا عليه وعلى أمة الإسلام، وقد أخذ هذا التآمر عدة صور بعد فشلهم الذريع في الإتيان على الإسلام من أسفله، وهدم أركان الإسلام، وأولها توجيه سهامهم نحو الخلافة الإسلامية، حتى نجحوا بفضل حقدهم الدفين!
إن الحقد الذي يملأ الصدور ليزداد عندما يرون نور الإيمان يشع من قلوب ووجوه المؤمنين، عندما يرون ازدياد أعداء المسلمين، فقاموا يعملون على إضعاف تمسك المسلمين بدينهم؛ تارة بأنه دين لا يصلح للحكم، وتارة بأنه دين لا يصلح للعصر، وتارة بأنه ليس بدين بل خرافة مزعومة!
إن الغزو الفكري يظهر رأي العين عندما أقرأ قوله تعالى: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 105]، وقوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]، وقوله تعالى: ﴿ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [النساء: 102]، فهذا آيات تكشف نفسيات الأعداء، فبين الله تعالى أن الكافرين والمشركين وأهل الكتاب يقفون معًا على قدم وساق لمنع الخير، لمنع انتشار الإسلام، الكل يضمر شرًّا للإسلام وأهله.
كذلك يظهر الحقد – لإحساسهم بأن المسلمين تميزوا عنهم – بقول الله تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ﴾ [النساء: 89]، حتى في الفكر الكفري يريدوننا مثلهم! فكيف يرضون أن نتقدم؟! فكيف يرون أقوى؟! ولكن كما قال الله: ﴿ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [البقرة: 109]، و﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ [آل عمران: 118
يقول ولفرد كانتول سميث في كتابه الإسلام في التاريخ المعاصر (122): “إن عزل العقيدة عن مجالاتها التطبيقية في حياة المسلمين لهو ما يقوض فعالية العقيدة الإسلامية في نفوس الجماهير الإسلامية؛ لأنها هي التي تتصدى لأي تدخل عسكري! لذلك يريد مُفَكِّرو الغرب أن يوقفوا بواسطة الغزو الفكري فعالية العقيدة الإسلامية في نفوس الجماهير، وجعلها مشلولة الإرادة، مبلبلة الفكر، سلسة الانقياد…”، ومنه يُعْلَم أن الحقد الصليبي الغربي الكافر يتحرك ضد الإسلام لهدمه بكلِّ قُوَّة، وهو نفسه – أي: ولفرد كانتول سميث – يُؤَكِّد في كتابه هذا ص 124 قائلًا: “لأن الإسلام عقيدة عملت بإصرار على إنكار المبدأ الرئيسي للعقيدة المسيحية، التي كانت بالنسبة لأوروبا الاعتقاد السامي الذي أخذت تبني – في بطء – حضارتها، وكان التهديد الإسلامي موجهًا بقوةٍ وعنفٍ، وكان ناجحًا نجاحًا مكتسحًا في نصف العالم المسيحي تقريبًا…”!
وإذا كان العامل الفكري والنفسي سببا رئيسا في حرب وهدم الإسلام، فلا ينفي هذا أن يكون هناك دوافعُ أخرى؛ كأن يكون عاملًا اقتصاديًّا، للاستيلاء على خيرات العالم الإسلامي، كما حَدَث مصر والمغرب والجزائر وليبيا، وكما هو حَادِثٌ الآن في العراق، والسودان وغيرها من بلاد المسلمين!
إن أسمى هدف يسعى إليه أصحاب الصليب هدم العقيدة أولًا؛ إذ هو النواة المحركة للقلب المسلم، فالعقيدة هي سبب الكره لهم، والعقيدة هي التي تمنع أفكارهم، والعقيدة هي التي ترفض سياستهم، والعقيدة هي التي تقف أمامهم أثناء الحروب العسكرية، والعقيدة هي تقف حائط سد أمام تسرب أفكارهم إلى الشباب المسلم، والعقيدة هي التي تحبب المسلمين في الجهاد والموت، والعقيدة هي التي تجمع آصرة الأخوة بين المسلمين، والعقيدة هي التي ترفض ولاية الكافرين على المؤمنين، والعقيدة هي التي ترفض أي ولاء إلا لله والإسلام.
لقد هَدَف الاستعمارُ الغربي من تطبيق الغزو الفكري على الأمة الإسلامية إلى
• ضرب الإسلام من الداخل، عنْ طريقِ إضعاف فاعليته، وعَزْله عن التأثير في حياةِ المُسْلِمين، وتحويله إلى دين – أشبه بدين النصارى – لا يَأْبَه بحياة الناس التشريعيَّة والسياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ أي: فَصْل الدِّين وعزله عن الدولة والحكم وحياة الناس العامة.
• وقف المد الإسلامي، وحَصْر الإسلام داخل حُدُودٍ لا يتجاوزها، حتى لا يدخلَ فيه أحد من الغربيين، وحَقْن الشعوب الأخرى بكراهية الإسلام والمسلمين.
• تجزئة المسلمين أرضًا وأمة وفكرًا، وتَشْويه صورتهم التاريخية الغابرة والحالية، والحيلولة دون مستقبل مشرق للإسلام والمسلمين.
إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوربا”، ويقول رئيس وزراء إسرائيل الأسبق “بن غوريون”: “نحن لا نخشى الاشتراكيات، ولا الثوريات، ولا الديمقراطيات في المنطقة نحن فقط نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلًا، وبدأ يتململ من جديد”
ومن ثَمَّ استخدموا كل وسيلة وطريقة وجدوا فيها محورًا نافعًا في صراعهم ضد الإسلام، لقد تعددت وسائل الغزو الفكري، وتكاثرتْ سبله حتى كاد الباحث المسلم يعجز عن تحديدها وحصرها، ومن العجيب أن بعض هذه الوسائل أصبحت أمرًا مستساغًا جدًّا عند كثير من المسلمين، ونحاول هنا الحديث عن بعض وسائل الغزو الفكري منبهين إلى خطورتها وآثارها في حياة المسلمين، ومنها: التنصير، والاستشراق، والتغريب، والدعوات والنعرات الهدامة، والفرق الضالة، والمذاهب الفكرية الفلسفية والمناقضة للإسلام عقيدة ومنهجًا ونظامًا
الغزو الثّقافيّ الغزو الفكريّ، وهوكافّة الجهود والممارسات التي تَبذلها أمّة ما بحقّ أمّة أخرى بغية الاستيلاء والسيطرة عليها بطريقة غير حربيّة أو عسكريّة، ويُعدّ الغزو الفكريّ أكثر خطورة من الغزو العسكريّ؛ نظراً لانتهاجه بكلّ سريّة وغموض في بداية أمره. يوصَف الغزو الفكريّ بأنه داء عُضال فتّاك ينهش في أجساد الأمم، ويلغي شخصيّتها، ويخفي معالم الأصالة والقوة فيها، ويهدف الغزو الثّقافيّ بالدّرجة الأولى إلى احتلال العقل وليس الأرض، فيتّخذ أسلوباً خفياً، ويكون متجمّلاً بما يتماشى مع أهواء الإنسان. بدايات الغزو الثّقافيّ يعود تاريخ ظهور الغزو الثّقافيّ إلى العصور القديمة؛ إلى أن برز جليّاً في مطلع القرن العشرين، حيث شنّه الغرب ضدّ المسلمين خاصة؛ لغايات سلخهم عن دينهم وعاداتهم وتقاليدهم، فأدخلوا إليهم ما يتماشى مع الشهوات بأسلوب غير مباشر؛ لإبعاد الشريحة المسلمة عن دينها كلّ البعد تدريجياً. وسائل الغزو الثّقافيّ السّعي الدؤوب للاستيلاء على عقول الفئة الشابّة المسلمة؛ لغايات تعميق المفاهيم الغربيّة وترسيخها في عقولهم، وإقناعهم بأنّ الحياة الغربية هي الفُضلى. تشريب الأفكار الغربيّة لأبناء المسلمين بتقديم الرّعاية والتربية والإحاطة بهم، وذلك بإقامة المؤسسات التعليميّة التي تَخدم المنهج الغربي وتسايره. إحلال اللغات الغربيّة مكان اللغة العربية، وجعل لغتهم هي الرّسمية أو الأكثر تداولاً في بلاد العرب والمسلمين. إقامة المدارس التبشيرية، وإرسال الحملات التبشيريّة إلى بلاد المسلمين، واستهداف الأطفال خاصّة، وزرع الأفكار الغربية فيهم وتنشئتهم عليها. السعي إلى السيطرة على مناهج التعليم ووضع مناهجهم التي يرغبون بإحلالها في المدارس. تدريس الإسلام واللغة العربية عن كثب لطوائف اليهود والنّصارى؛ لتقديم أفكار مشابهة بها في بلاد المسلمين، لكن مخالفة للشريعة الإسلامية. إرسال المبشِّرين والدعاة إلى الدول المسلمة الفقيرة، وإقامة الدعوات والمنظّمات وفقاً لأسس مَدروسة. الدعوة إلى تحرّر المرأة، وتزهيد دورها في الحياة، ومن بينها التشجيع على الاختلاط. إقامة الكنائس والمعابد النّصرانية واليهودية في بلاد المسلمين، والاهتمام بها مع إهمال المساجد ودور العبادة الإسلامية. إقامة إذاعات خاصة مهمّتها الدعوة للنّصرانية، وإيصال أفكارها إلى مختلف أماكن وجود المسلمين. أهداف الغزو الثّقافيّ زعزعة العقيدة الإسلاميّة في نفس المسلم والتشكيك بها؛ وبمصادرها الأربعة. السّعي إلى القضاء على اللغة العربية ودثرها. خلق الفرق بين المسلمين من خلال المذاهب الهدّامة. الإيقاع بين المسلمين بإثارة النعرات بينهم سواء كانت قومية أو عرقية. إثارة الشكوك والشبهات حول الإسلام. الدعوة إلى الشهوات والملذّات على أنها أمر طبيعي، وإغراق الأمة فيها .